الأحد، 7 مارس 2010

شخصية بيلاطس في الاناجيل ودوره في محاكمة يسوع عرض ونقد

الفصل التاسع شخصية بيلاطس

بيلاطس البنطي والي اليهودية في زمن يسوع يُعتبر من الشخصيات الرئيسية في الأناجيل وظهر هذا الأمر خاصة في قصة محاكمة وصلب يسوع، لان دوره تنوع في صنع أحداثها بحسب كل إنجيل.
ومع قيام بيلاطس بالدور الرئيس في قصة المحاكمة والصلب، طبعاً بعد شخصية يسوع، باعتباره الوالي الذي كان بيده السلطان على صلب يسوع أو العفو عنه كما قال هذا الكلام ليسوع في إنجيل يوحنا، وهو في النهاية من أصدر حكم القتل والصلب.
إلا اننا نجد ان هذه الشخصية لم تحظَ بالقدر نفسه من الكراهية التي حظي بها يهوذا الاسخريوطي أو رؤساء الكهنة والفريسيون والكتبة الذين سعوا في قتل يسوع عند بيلاطس.
كما ان هذه الكراهية القليلة نسبياً لم تلحق بالرومان كما لحقت باليهود على مدار التاريخ، مع ان يسوع قال وهو معلق على الصليب يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون، (لوقا 23: 34).
وعدم ظهور هذه الكراهية في الضمير الكنسي على بيلاطس وتوجيهها على اليهود يُثير عدة تساؤلات عن أسبابه، الأول وهو هل هو عدم رغبة الكنائس بإثارة السلطات الحاكمة في روما عليها باعتبار أن بيلاطس يُمثلها؟
لأن توجيه الكراهية عليه يُمثل عملاً يمكن ان تعتبره روما موجهاً ضدها، وبالتالي فإن روما ستواجه الكنائس باعتبارها تدعوا لكراهية قيصر والثورة عليه، وهذا الأمر يمكن ان نلاحظه كذلك في الأناجيل من خلال بعض أقوال يسوع وبعض مواقفه من الحكام!
- ولما جاءوا إلى كفر ناحوم،
تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس وقالوا أما يوفي معلمكم الدرهمين، قال بلى،
فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً ماذا تظن يا سمعان ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب،
قال له بطرس من الأجانب،
قال له يسوع فإذا البنون أحرار،
ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر وألقِ صنارة والسمكة التي تطلع أولاً خذها ومتى فتحت فاها تجد إستار فخذه وأعطهم عني وعنك. (متّى 17: 24-27)
وقوله الشهير أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما للإله للإله. (متّى 22: 21)
- ثم حضر أيضاً إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يُعلّمُهُم،
وقدّم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أُمسكت في زنا، ولما أقاموها في الوسط،
قالوا له يا معلم هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل،
وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم فماذا تقول أنت،
قالوا هذا ليُجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه،
وأما يسوع فانحنى الى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض،
ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر،
ثم انحنى أيضاً إلى أسفل وكان يكتب على الأرض. (يوحنا 8: 1-8)
كما يمكن ان نلاحظ هذا الموقف المهادن لروما بقول بولس لأتباعه ان قيصر هو خادم الإله في الارض، ودعوته لأتباعه بطاعة السلاطين والملوك والخضوع لهم، وهم لم يكونوا في ذلك الوقت من اتباع الكنائس!
- لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الإله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الإله،
حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الإله،
والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة،
فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة،
أفتريد أن لا تخاف السلطان، افعل الصلاح فيكون لك مدح منه،
لأنه خادم الإله للصلاح، ولكن إن فعلت الشر فخَفْ،
لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الإله،
منتقمٌ للغضب من الذي يفعل الشر،
لذلك يلزم أن يُخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضاً بسبب الضمير،
فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً،
إذ هم خدام الإله، مواظبون على ذلك بعينه،
فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية،
الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام. (رومية 13: 1-7)
التساؤل الثاني وهو هل كان توجيه الكراهية على اليهود بسبب معرفة الكنائس ان عدم إيمان اليهود بمعتقداتها سيبقى حجر عثرة أمام الكنائس في اقناع الناس بما تدعو إليه، والتفسيرات التي تقوم بها لنصوص العهد القديم والقول انها تتحدث عن يسوع، لأن عدم إيمان اليهود بهذه العقائد وتلك التفسيرات تبقى دليلاً للكثيرين على عدم صحتها، لأنه لو كانت هذه المعتقدات والتفسيرات صحيحة لآمن اليهود، وخاصة ان يسوع لم يُرسل إلا لهم، فعدم إيمانهم حال دون تفرد الكنائس بنشرها، ولهذا صبّوا جام غضبهم وكراهيتهم على اليهود، لا بل وكثيراً ما حاولت الكنائس افنائهم جميعاً.
وكذلك الحال بالنسبة لعدم اظهار الكراهية للرومان، فالكنائس بعد ان عجزت عن اقناع اليهود بإيمانها وتفسيراتها للعهد القديم توجهت لدعوة الشعوب غير اليهودية، فكيف ستدعو لكراهية هذه الشعوب وهي تدعوهم للايمان بمعتقداتها، مع ان هذا الموقف مخالف لما كان عليه يسوع، إذ أنه أعلن أنه لم يُرسَل إلا الى خراف بيت إسرائيل الضالة، وطلب من التلاميذ عدم التوجه لدعوة الشعوب الأُخرى ووصفهم بالكلاب كما في النصوص التالية:
- هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً
إلى طريق أُمم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا،
بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. (متّى 10: 5-6)
فأجاب وقال لم أُرسل إلا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة،
فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعنّي،
فأجاب وقال ليس حسناً أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب،
فقالت نعم يا سيد، والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. (متّى 15: 24-27)
فعدم إيمان اليهود أجبر الكنائس إلى التوجّه الى الشعوب الاخرى، مما جعلها تخفف من الخطاب التحقيري لتلك الشعوب ونسيان او تجاهل أقوال يسوع ومواقفه!
أول ذكر لبيلاطس جاء في الاناجيل من الناحية التاريخية، أي من ناحية ذكره بحسب التسلسل التاريخي لحياة يسوع وليس باعتبار ترتيب الاناجيل في الطباعة، هو النص التالي من انجيل لوقا:
- وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يُخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. (لوقا 13: 1)
في هذا النص نلاحظ ان شخصية بيلاطس تدل على العنف الشديد، حتى انه لم يتورع عن قتل هؤلاء الجليليين القادمين لزيارة الهيكل، ولم يكتف بهذا بل خلط دمائهم بدماء ذبائحهم التي احضروها ليقربوها في الهيكل، وهذه الصفة تختفي عندما تتحدث الاناجيل عنه في قصة الصلب كما سنرى لاحقاً!
كما نقرأ في النص أيضاً ان قوماً أخبروا يسوع عن هؤلاء الجليليين، وهو ما يتناقض مع الصفة التي تؤمن بها الكنائس ليسوع من أنه أحد الآلهة الثلاث الذين هم واحد، فلو كان ما تقوله الكنائس عنه صحيحاً، ولو كانت هذه الآلهة الثلاث موجودة، وهي ليست بموجودة، لعَلِمَ مصير الجليليين ولم يحتاج لمن يُخبره بذلك، لأن من صفات الإله الحقّ معرفة الغيب!
والاغرب من هذا هو تعليق يسوع على هذه الحادثة بقوله:
- فأجاب يسوع وقال لهم أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا،
كلا أقول لكم، بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. (لوقا 13: 2-3)
ولم يؤمن الجليليون كما هو مكتوب في الأناجيل، ولكنهم لم يهلكوا بخلط دمائهم بذبائحهم كما تنبأ يسوع!
ثم يختفي ذكر بيلاطس الى وقت محاكمة يسوع، فتذكره الاناجيل الاربعة خلال محاكمة يسوع بعد إلقاء القبض عليه وأنا سأعتمد انجيل متّى كأساس للشخصية باعتباره أول الاناجيل المطبوعة في الكتاب المقدس مع ذكر الاختلافات او الزيادات التي في الأناجيل الأُخرى.
فمتّى كتب ان اليهود مضوا بيسوع الى بيلاطس كما في النص التالي:
- ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه،
فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي. (متّى 27: 1-2)
تتفق الاناجيل الاخرى مع متّى في هذا الجزء من القصة سواء في وقت أخذ يسوع أو فيمن أخذه أو فيمن استقبلهم لأخذه كما في النصوص التالية:
- وللوقت في الصباح تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله فأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه الى بيلاطس. (مرقس 15: 1)
- فقام كلّ جمهورهم وجاءوا به إلى بيلاطس. (لوقا 23: 1)
- ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح، ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيأكلون الفصح. (يوحنا 18: 28) 
ولكن الاناجيل تختلف في السبب الذي من أجله قام اليهود بتسليم يسوع لبيلاطس، فكما نقرأ في النصين التاليين ان متّى ومرقس لم يذكرا أي شيء عن السبب.
- وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يُجب بشيء،
فقال له بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك،
فلم يُجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً. (متّى 27: 12-14)
- وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً،
فسأله بيلاطس أيضاً أما تجيب بشيء انظر كم يشهدون عليك،
فلم يُجب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجب بيلاطس.(مرقس 15: 3-5)
فمتّى ومرقس لم يذكرا سوى ان رؤساء الكهنة والشيوخ كانوا يشتكون عليه ولكنهما لم يذكرا ما هي تلك الشكاوى!
وأما لوقا فذكر سبب الشكوى عليه فقال:
- فقام كلّ جمهورهم وجاءوا به الى بيلاطس،
وابتدئوا يشتكون عليه قائلين إننا وجدنا هذا يُفسد الأُمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلاً إنه مسيح ملك،
فسأله بيلاطس قائلاً أنت ملك اليهود،
فأجابه وقال له أنت تقول. (لوقا 23: 2-3)
ولكن هذا السبب للشكوى لم يكن مقنعاً لبيلاطس فقط، الذي تجاهله كما سنقرأ لاحقاً، بل كذلك لم يكن مقنعاً ليوحنا إذ كتب في إنجيله النصّ التالي:
- ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا الى دار الولاية وكان صبح،
ولم يدخلوا هم الى دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيأكلوا الفصح، فخرج بيلاطس إليهم وقال أيّة شكاية تقدّمون على هذا الانسان،
أجابوا وقالوا له لو لم يكن فاعل شرّ لما كنا قد سلمناه إليك. (يوحنا 18: 28-30)
فقول لوقا ان اليهود قالوا ان يسوع يُفسد الأُمة ويمنع ان تُعطى الجزية لقيصر خطأ لعدة اسباب.
الاول ان يسوع كان يدفع الجزية للرومان.
الثاني ان يسوع كان يأمر تلاميذه بطاعة قيصر كما في قوله أعطوا ما لقيصر لقيصر.
الثالث ان يسوع لم يكن يُعلن عن صفته انه المسيح، لا بل انه كان يوصي الشياطين الذين أخرجهم من بعض الناس ان لا يظهروا صفته تلك، كما انه كان يوصي تلاميذه ان لا يقولوا لأحد أنه المسيح، كما بينت ذلك سابقاً!
الرابع ان يسوع هرب من الناس عندما حاولوا ان يختطفوه ويجعلوه ملكاً وذهب الى جبل وحده.
- وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً الى الجبل وحده. (يوحنا 6: 15)
الخامس ان الأناجيل الثلاثة لم تذكر هذه الشكوى مما يدل على أنهم لم يكونوا مقتنعين بها لتكون سبباً للشكوى على يسوع.
السادس ان بيلاطس نفسه لم يأخذها على محمل الجدّ، وإلا لو كانت صحيحة لما تصرف مع يسوع في المحاكمة بهذا الشكل المتساهل، وهو كما ذكر لوقا نفسه كان من العنف بحيث انه كان يخلط دماء أعدائه بدم ذبائحهم، كما فعل مع الجليليين.
وهنا قد تعترض الكنائس فتقول ان شكوى اليهود على يسوع لا يعني ان تكون صحيحة او حقيقية بل قد تكون كذباً، ولوقا لم يفعل سوى نقل أقوالهم، وهذا لا يدل على خطأ لوقا.
أقول لهؤلاء ان نقل الواقع شيء وصناعته شيء آخر، فالاناجيل كتبت ان اليهود ظلوا فترات طويلة من الزمن يحاولون أن يُوقعوا يسوع بكلمة أو فعل يستطيعون بها الشكوى عليه عند الرومان ولم يُفلحوا، لأن يسوع لم يكن يصدر عنه أيّ قول او فعل مخالف لسلطة الرومان، كما حدث معه عندما قدموا له امرأة زانية حتى يحكم عليها بحكم مخالف لأحكام الرومان، وكما حاولوا معه كي يقول شيئاً ضد قيصر عندما سألوه إن كان يجوز إعطاء قيصر الجزية.
كما انهم لم يكونوا متأكدين من صفته كمسيح، وفي عدة مواضع كتبت الأناجيل انهم حاولوا معه كي يُعلن لهم صفته ولكنه كان في كل مرة يرفض أن يُعلن تلك صفته!
وأخيراً فقد ظل اليهود طوال الليل وهم يبحثون عن شهود كي يشهدوا ضده ولم يجدوا حتى تقدم شاهدان قالا انهما سمعاه يقول انه يستطيع هدم الهيكل وإعادة بنائه في ثلاثة أيام، مما يدل على ان اليهود لم يكونوا بتلك السذاجة كي يقولوا لبيلاطس ان يسوع يدعو لمنع دفع الجزية لقيصر، وخاصة أنهم يعلمون أن في استطاعة بيلاطس التأكد من هذه المعلومة، فإذا ظهر له أن يسوع كان يدفع الجزية فسيعتبر قول اليهود هذا نوعاً من الاستهزاء به وبسلطاته، وهم يعلمون كذلك ان بيلاطس بلا رحمة وأنه يخلط دماء أعدائه بذبائحهم، فقول لوقا هذا لا يدل على أنه يُمكن أن يصدر من اليهود، وخاصة أن الأناجيل الثلاثة لم تذكره وبيلاطس نفسه تجاهله!
ننتقل الآن لنقرأ مُجريات محاكمة يسوع، الإله الثاني من الآلهة الثلاث الذين هم واحد، كما ذكرتها الأناجيل، فنجد ان متّى ذكر مجريات المحاكمة كما يلي:
- فوقف يسوع امام الوالي فسأله الوالي قائلاً أأنت ملك اليهود،
فقال له يسوع أنت تقول. (متّى 27: 11)
هكذا بدأت محاكمة يسوع وهكذا انتهت، أنت ملك اليهود قال يسوع أنت تقول!
ولكن متّى الذي لم يكتب تفاصيل الشكوى لم ينس أن يكتب عن الحلم الذي حلمته امرأة بيلاطس فقال:
- وإذ كان جالساً على كرسي الولاية أرسلت إليه امرأته قائلة إياك وذلك البار،
لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله. (متّى 27: 19)
في هذا النص كتب متّى عن حلم امرأة بيلاطس، ومع أنه لم يذكر تفاصيل الحلم، إلا أن من يقرأ الاناجيل، وخاصة أول مرة، يكون متلهفاً لمعرفة أثر هذا الحلم على مجريات المحاكمة، ولكن المفاجأة انه لا أثر لهذا الحلم، وهو ما يُثير الشك في مصداقية هذا النص، لأنه مكتوب في العهد القديم عن بعض الأحلام التي ظهر الرب فيها لأصحابها وقد أعطت النتائج المرجوة منها ولكن حلم امرأة بيلاطس لم يعط أي نتيجة!
فهل كان متّى يحاول ان يقتبس من تلك الأحلام ليقول أنه قد حدث مثلها في قصة يسوع، إذ كيف يظهر الرب في أحلام ليُنقذ إبراهيم ويعقوب من الشرور التي كانت تحيق بهما ولا يظهر في حلم في قصة محاكمة يسوع، وان كان متّى لم يكتب عن تفاصيل هذا الحلم ولم تظهر نتيجة له، إلا انه لا بأس من وجود قصة تتحدث عن حلم كما في قصص إبراهيم ويعقوب، ولأنه عندما كتب إنجيله كان يريد ان يُوصل يسوع للصلب ومن ثم القتل أو الموت فكان من الصعب عليه كتابة أي أثر لذلك الحلم، مع الاحتفاظ بوجود حلم كما حدث مع إبراهيم ويعقوب، كما في النصوص التالية:
- وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أُختي،
فأرسل أبيمالك ملك جَرَارَ وأخذ سارة،
فجاء الإله الى أبيمالك في حلم الليل، وقال له ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها فإنها متزوجة ببعل،
ولكن لم يكن أبيمالك قد اقترب إليها، فقال يا سيد أأُمّةً بارّة تقتل،
ألم يقل هو لي إنها أختي، بسلامة قلبي ونقاوة يديّ فعلت هذا،
فقال له الإله في الحلم أنا أيضاً علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا وأنا أيضاً أمسكتك عن أن تخطئ إليّ، لذلك لم أدعك تَمَسُّها،
فالآن ردَّ امرأة الرجل فإنه نبيّ فيُصلي لأجلك فتحيا، وإن كنتَ لستَ تردّها فاعلم أنك موتاَ تموت أنت وكل من لك،
فبكر أبيمالك في الغد ودعا جميع عبيده وتكلم بكل هذا الكلام في مسامعهم فخاف الرجال جداً. (تكوين 20: 2-8)
- فأخذ أبيمالك غنماً وبقراً وعبيداً وإماء وأعطاها لإبراهيم، وردّ إليه سارة امرأته. (تكوين 20: 14)
- فأُخبر لابان في اليوم الثالث بأن يعقوب قد هرب،
فأخذ إخوته معه وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام فأدركه في جبل جلعاد،
وأتى الإله الى لابان الأرامي في حلم الليل فقال له احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شرّ،
فلحق لابان يعقوب ويعقوب قد ضرب خيمته في الجبل، فضرب لابان مع إخوته في جبل جلعاد. (تكوين 31: 22-25)
- في قدرة يدي أن أصنع بكم شرّاً،
ولكن إله أبيكم كلمني البارحة قائلاً احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شرّ. (تكوين 31: 29)
وأما مرقس فكتب عن مجريات المحاكمة كما يلي:
- فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود فأجاب وقال له أنت تقول،
وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً،
فسأله بيلاطس أيضاً قائلاً أما تجيب بشيء انظر كم يشهدون عليك،
فلم يُجب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجب بيلاطس. (مرقس 15: 2-5)
في هذا النص مرقس يبدأ المحاكمة بسؤال بيلاطس انت ملك اليهود واجابة يسوع له أنت تقول!
على الرغم من ان الكهنة كانوا يشهدون كثيراً على يسوع، إلا انه لم يذكر لنا تلك الشهادات، وتنتهي المحاكمة كما انتهت في انجيل متّى سؤال وجواب!
واما لوقا فأعطى للمحاكمة مساراً مختلفاً وهو الوحيد الذي ذكر سبباً لشكوى اليهود على يسوع، الإله الثاني من الآلهة الثلاث الذين هم واحد، فقال:
- فسأله بيلاطس قائلاً أنت ملك اليهود،
فأجابه وقال له أنت تقول،
فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع إني لا أجد علّة في هذا الانسان،
فكانوا يُشدّدون قائلين إنه يُهيج الشعب وهو يُعلّم في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل الى هنا،
فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل هل الرجل جليلي،
وحين علم أنه من سلطنة هيرودس أرسله إلى هيرودس إذ كان هو أيضاً تلك الايام في أُورشليم. (لوقا 23: 3-7)
لوقا بعد ان ذكر السبب الذي من أجله اشتكى اليهود على يسوع قام بتقسيم المحاكمة الى ثلاثة أجزاء الاول كما كتب متّى ومرقس، فكان سؤال وجواب يحمل نفس المضمون انت ملك اليهود فيكون الرد انت تقول.
ولعلّ لوقا لم يقتنع بإنهاء المحاكمة عند هذا الحد وهو يتحدث عن محاكمة يسوع، الإله الثاني من الآلهة الثلاث الذين هم واحد كما تقول الكنائس، فأقام له محاكمة ثانية وذلك بكتابة قصة انفرد بها عن الاخرين وهي ان هيرودس قام بمحاكمة يسوع بعد أن أرسله إليه بيلاطس كما نقرأ في النص التالي:
- واما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جداً لأنه كان يُريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجّى أن يرى آية تصنع منه، وسأله بكلام كثير فلم يُجبه بشيء،
ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد،
فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به وألبسه لِباسَاً لامعاً ورده إلى بيلاطس،
فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما. (لوقا 23: 8-12)
ثم أقام له محاكمة ثالثة عند بيلاطس كما في النص التالي:
- فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب،
وقال لهم قد قدمتم إليّ هذا الانسان كمن يُفسد الشعب،
وها أنا فحصت قدّامكم ولم أجد في هذا الانسان علّة مما تشتكون به عليه،
ولا هيرودس أيضاً، لأني أرسلتكم إليه،
وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه، فأنا أُؤدبه وأُطلقه. (لوقا 23: 13-16)
وهنا تنتهي المحاكمة كما كتبها لوقا، ولكن يبقى عليها عدة ملاحظات، الأولى وهي لماذا تفرد لوقا بذكر محاكمة يسوع من قِبَل هيرودس، وخاصة أنه لا يُوجد أيّ أثر لهذه المحاكمة سوى إلصاق بعض الشتائم بيسوع، كقول لوقا ان هيرودس احتقر يسوع واستهزأ به وألبَسَه لِباساً لامعاً.
الملاحظة الثانية وهي ان لوقا يُظهر يسوع انه لم يكن معنياً بإعلان صفته التي تقولها عنه الأناجيل وقوانين إيمان الكنائس باعتباره ابن الإله والإله الثاني من الآلهة الثلاث الذين هم واحد.
الملاحطة الثالثة وهي ظهور يسوع بانه لا يعتني بالتبشير بين الناس، او على الأقل بين غير اليهود، وقد كانت هذه فرصة ليسوع ان يجعل هيرودس يؤمن به، وخاصة انه كان فرحاً جداً لرؤيته!
وأما يوحنا فأخذ مجريات المحاكمة الى اتجاه آخر لم يكتبه متّى ولا مرقس، ولا حتى لوقا ذكر شيئاً عنه، فكتب بعد ان قال ان رؤساء اليهود قالوا لبيلاطس انه لو لم يكن فاعل شر لما سلموه ما يلي:
- فقال لهم بيلاطس خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم،
فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحداً،
ليتم قول يسوع الذي قاله مشيراً الى أيّة ميتة كان مزمعاً ان يموت. (يوحنا 18: 28-32)
كما نقرأ فإن يوحنا كتب ان بيلاطس قال لليهود خذوه انتم واحكموا عليه حسب ناموسكم، ومن يقرأ هذه الكلمات يظن ان بيلاطس يتحدث مع أُناس مساوين له في السلطان والحكم، وليسوا عبيداً عنده وتحت سلطانه، ويدفعون له الجزية، وان أيّاً منهم يخالف قوانينه فانه يخلط دمائه بذبيحته!
كيف يقول بيلاطس لليهود خذوه واحكموا عليه حسب ناموسهم؟!
ولوقا كما قرأنا قال ان سبب شكوى اليهود على يسوع هو محاولته ان يُفسد الشعب على سلطة قيصر!
ولكن يوحنا عندما كتب هذه الفقرات أراد ان يوصل لنا فكرة عن حادثة الصلب وهي قوله ليتم قول يسوع الذي قاله مشيراً الى أيّة ميتة كان مزمعاً ان يموت!
فجواب اليهود لبيلاطس انه لا يجوز لهم ان يقتلوا أحداً هو لإعطاء مُبَرِّر لكي يُصلب يسوع على الخشبة وهو حيّ.
لان التوراة أو الناموس عندما ذكر الصلب قال انه يتمّ بعد القتل وليس قبله كما في النص التالي:
- وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت فقتل وعلّقته على خشبة،
فلا تبت جثته على الخشبة بل تدفنه في ذلك اليوم لأن المُعلق ملعون من الإله،
فلا تنجس أرضك التي يُعطيك الرب إلهك نصيباً. (التثنية 21: 22-23)
بخلاف قانون الرومان الذي يصلب الانسان وهو حي، لهذا كتب يوحنا هذا القول الخطأ على لسان اليهود، والذي يعلم كل انسان انه خطأ، لأن من له أدنى علم بشريعة اليهود يعلم انه يوجد بها أحكام كثيرة تحكم بالقتل على فاعلها، حتى ان من يشتم أباه أو أُمه فان حكم ناموس أو شريعة اليهود عليه هو القتل فكيف يقول اليهود انه لا يجوز في ناموسهم ان يقتل احد؟!
الجواب كما قدمت لأن يوحنا يُريد ان يصلب يسوع وهو حيّ!
وهذا ما سنلاحظه بعد قليل عندما يقول نفس هؤلاء اليهود وفي نفس الحادثة ان لهم ناموس وحسب ناموسهم يجب ان يموت لانه جعل نفسه ابناً للإله.
- ثم دخل بيلاطس أيضاً الى دار الولاية ودعا يسوع وقال له أنت ملك اليهود،
أجابه يسوع أمِنْ ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني،
أجابه بيلاطس ألعَلي أنا يهودي،
أُمّتك ورؤساء الكهنة أسلموك إليّ، ماذا فعلت،
أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم،
لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خُدّامي يُجاهدون لكي لا أُسلم إلى اليهود،
ولكن الآن ليست مملكتي من هنا،
قال له بيلاطس أفأنت إذاً ملك،
أجاب يسوع أنت تقول إني ملك،
لهذا قد وُلدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق، كل من هو من الحق يسمع صوتي،
قال له بيلاطس ما هو الحق،
ولما قال هذا خرج أيضاً الى اليهود وقال لهم أنا لست أجد فيه علة واحدة. (يوحنا 18: 33-38)
- فدخل أيضاً الى دار الولاية وقال ليسوع من أين أنت،
وأما يسوع فلم يُعطه جواباً،
فقال له بيلاطس أما تكلمني،
ألستَ تعلم أن لي سُلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أُطلقك،
أجاب يسوع لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم. (يوحنا 19: 9-11)
في هذا الجزء من مجريات محاكمة يسوع، الذي أخذنا اليه يوحنا وحده من بين كتبة الأناجيل، نجد ان بيلاطس هادئ وهو يستجوب يسوع، فعندما سأله انت ملك اليهود نسمع ردّ يسوع عليه بقوله أمِن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني، وكأن يسوع كان يرجو ان يؤمن بيلاطس، ولكن بيلاطس يحافظ على هدوئه مع الاحتفاظ بمكانته أمام الواقف أمامه لمحاكمته، فيقول ألعلي أنا يهودي، أُمتك ورؤساء الكهنة أرسلوك اليّ، ماذا فعلت، وهذا القول يؤكد ان بيلاطس لم يُعر أي اهتمام لشكوى اليهود، ولكن يسوع بدلاً من ان يُظهر صفته التي تؤمن بها الكنائس نجده يُجيب بيلاطس بقوله ليست مملكتي من هذا العالم!
وهذا الجواب يُثير الشك في صحة قوانين إيمان الكنائس القائلة ان يسوع أحد الآلهة الثلاث الذين هم واحد، لأنه يقول ان الارض خارج مملكة الآلهة الثلاث، فهل تقول الكنائس ان العالم المادي هذا ليس تحت سيطرة الآلهة الثلاث الذين هم واحد؟!
ومن هو الذي أخذ هذا العالم من سيطرة الآلهة الثلاث، ومن هو الأولى بالعبادة الآلهة الثلاث أم الذي يُسيطر على هذا العالم؟
كما أن هذا الجواب يؤكد أنه لا توجد أيّة علاقة بين الآلهة الثلاث والرب خالق السموات والأرض الذي يملك كل ذرة في هذا العالم وفي غيره من العوالم كما هو مذكور في العهد القديم.
ثم يُكمل يسوع كلامه فيقول لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا، وهذا الكلام يُثير مشكلات كثيرة امام الكنائس في تثبيت قوانينها، إذ ان العهد القديم مليء بالقصص التي تتحدث عن إرسال الرب ملائكة لنصرة أنبيائه، فما الذي منع يسوع من جلب بعض الملائكة لنصرته، واذا عجز عن ذلك فهل الإله الذي يعجز عن طلب مساعدة خدّامه هو فعلاً مسيطراً عليهم؟
كما ان هذا القول ينقض قانون الفداء والخلاص الذي تؤمن به الكنائس، إذ ان يسوع وفي آخر ساعاته على الارض يقول انه لو كانت مملكته من هنا لطلب المساعدة من أجل منع اليهود من صلبه، فلو كان يسوع قد جاء ليُخلص البشرية من تلك الخطيئة لقال لبيلاطس انه جاء ليرفع خطيئة البشرية فاحكم عليّ بأسرع ما يمكن لأنني لهذا جئت، كما كتب يوحنا في إنجيله قبل هذا بقليل عن طلبه من يهوذا ان يقوم بعملية الإرشاد عنه بأسرع ما هو فاعله، وقال يوحنا معقباً على ذلك بقوله ان التلاميذ لم يعرفوا قصد يسوع.
ولكن بيلاطس بعد هذا الحديث يبقى هادئاً فيقول ليسوع أفأنت إذاً ملك؟
وهذه الصفة هي التي وضع كتبة الاناجيل والكنائس من أجل إثباتها ليسوع كل نصوص العهد القديم وكل النبوءات التي تنبأ بها ملاك الرب وزكريا ويوحنا وغيرهما، فهل أعلنها يسوع؟
الجواب هنا هو المُحيّر وليس السؤال، كلا، لم يُجب يسوع عن السؤال باعلان أنه ملك على الرغم من عشرات النبوءات التي تقول الكنائس أنها تتحدث عن يسوع باعتباره ملكاً يجلس على كرسي أبيه داوُد ولا يكون لملكه نهاية، بل قال لبيلاطس أنت تقول!
ماذا يعني بأنت تقول؟
ممن كان يخاف يسوع حتى لا يُظهر صفته؟
ولماذا يخاف وهو ما جاء الا ليُصلب كي يحمل خطيئة آدم وذريته؟!
ثم يُكمل حديثه الفريد فيقول أنه جاء ليشهد للحق، وان من كان من الحق يسمع صوته، وهنا لم يقل انه جاء لرفع خطيئة البشرية ولا ليفدي البشرية بل قال ليشهد للحق وهذا القول يثير في نفس أي إنسان يسمعه رغبة في الاستفسار عن الحق الذي جاء ليشهد له يسوع، حتى أن بيلاطس قال له ما هو الحق.
ولكن يوحنا لم يذكر لنا جوابه بدعوى ان بيلاطس خرج الى اليهود!
ولماذا لم ينتظر بيلاطس ليسمع جواب يسوع عن ما هو الحق وهو الذي سأل السؤال؟
وخاصة انه خرج كما كتب يوحنا الى اليهود وقال لهم انه لا يجد فيه علة واحدة، وهذا يدل على انه عرف ان يسوع ليس به علة والنصوص السابقة لا تدل على هذا الشيء الا اذا سمع جواب يسوع عن ما هو الحق.
واذا كان بيلاطس لم يسمع جواب يسوع عن ما هو الحق، فلماذا لم يكتب يوحنا جواب يسوع ويُبين لنا ما هو الحق؟
أم إن يوحنا أخفى جواب يسوع عن سؤال ما هو الحق، كما قال في آخر إنجيله انه لم يكتب كل ما يعرفه عن يسوع وبالتالي حرم أتباع الكنائس الطيبين من معرفة الحق!
وآيات أُخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب،
وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الإله،
ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه. (يوحنا 20: 30-31)
- هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حقّ،
وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة. (يوحنا 21: 24-25)
وأما قول يوحنا على لسان يسوع كل من هو من الحق يسمع صوتي، فأنا أتساءل إذا كان هرب التلاميذ عند إلقاء القبض عليه من الحق الذي سمع صوته أم لا، وهل كان شكّ التلاميذ فيه وإنكاره ولعن بطرس له وعدم تصديقهم أنه قام من الأموات من الحق الذي سمع صوته أم لا؟
إلى هنا تنتهي محاكمة يسوع وتبدأ محاولة بيلاطس للإفراج عن يسوع وكان قد خيرهم بينه وبين باراباس فمن هو باراباس؟
باراباس
- وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى باراباس. (متّى 27: 16)
- وكان المسمى باراباس موثقاً مع رفقائه في الفتنة الذين في الفتنة فعلوا قتلاً. (مرقس 15: 7)
- فصرخوا بجملتهم قائلين خذ هذا وأطلق لنا باراباس،
وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل. (لوقا 23: 18-19)
وكان باراباس لصاً. (يوحنا 18: 38-40)
باراباس الرجل الذي استبدله اليهود بيسوع، يقول عنه متّى انه كان أسيراً، ومرقس ولوقا يقولان انه كان مطروحاً في السجن لأجل فتنة، ولم يذكرا شيئاً عن تلك الفتنة إلا انه حدث خلالها قتل، وأما يوحنا فيصفه باللص، وهذا يذكرني بيهوذا الاسخريوطي الذي وصفه يوحنا أيضاً باللص.
وليس المهم الاختلاف في صفة باراباس، فهي ظاهرة، وانما المهم هو قول مرقس ولوقا انه كان في السجن لأجل فتنة حدث فيها قتل، أي إن باراباس قام بعمل مشكلة مع الرومان، لأنه لو كان لصاً، فإن سرقته لبعض البيوت أو المحال التجارية لا تؤدي إلى فتنة بين الشعب، أو بين الشعب والدولة، وهي هنا ليست دولة عادية بل هي إمبراطورية.
فبمقارنة هذا الرجل الذي قام بفتنة أدت إلى القتل وقول لوقا عن اليهود أنهم سلموا يسوع بحجة انه يسعى لإفساد الشعب على قيصر، أي انه يسعى لإحداث فتنة وقول يوحنا في إنجيله ان قيافا قال انه يجب ان يُسلموا يسوع حتى لا تحدث فتنة وانه خير لهم ان يموت إنسان عن الشعب ولا تهلك الأُمة كلها.
- إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرومان ويأخذون موضعنا وأمتنا،
فقال لهم واحد منهم وهو قيافا كان رئيساً للكهنة في تلك السنة أنتم لستم تعرفون شيئاً،
ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت واحد عن الشعب ولا تهلك الأُمة كلها. (يوحنا 11: 48-50)
نجد أن طلب اليهود باراباس بدلاً من يسوع هو إشارة إلى أنهم كانوا موافقين على فتنة باراباس مما يُعطي بيلاطس دليلاً على سعي اليهود لإحداث فتن جديدة في المستقبل، وهذا الأمر لو كان صحيحاً كان سيُعتبر حجة لبيلاطس على عدم إطلاق باراباس وتسليم يسوع، وخاصة انه لم يجد في يسوع أيّ علة توجب قتله وكان يعلم أنهم أسلموه حسداً، بالإضافة إلى الحلم الذي حلمته امرأته الذي كتبه متّى.
ولكن كيف تمت عملية التخيير بينهما كما وردت في الأناجيل الأربعة؟
لنقرأ النصوص التالية:
- ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس من تريدون أن اطلق لكم، باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح،
لأنه علم أنهم أسلموه حسداً. (متّى 27: 17-18)
في هذا النص نقرأ ان بيلاطس خيّرهم بين يسوع وباراباس لأنه علم أنهم أسلموه حسداً، وهذا القول من غرائب الأقوال، إذ لو كان هذا القول صحيحاً لما خيرهم بل كان يُفترض به أن يُطلق يسوع، لأنه علم أنهم أسلموه حسداً، وخاصة أن بيلاطس علم بالحلم الذي حلمته امرأته وحذرته من التعرض ليسوع، كما انه فحص يسوع ولم يجد فيه علة توجب الموت!
- ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرّضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويُهلكوا يسوع،
فأجاب الوالي وقال لهم مَن مِن الاثنين تريدون أن أُطلق لكم، فقالوا باراباس،
قال لهم بيلاطس فماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى المسيح،
قال له الجميع ليُصلب،
فقال الوالي وأيّ شرّ عمل،
فكانوا يزدادون صراخاً قائلين ليُصلب،
فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً بل بالحريّ يُحدث شغب،
أخذ ماء وغسل يديه قدّام الجمع قائلاً إني بريء من دم هذا البارّ،
أبصروا أنتم ، فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا،
حينئذ أطلق لهم باراباس، وأما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب. (متّى 27: 20-26)
في هذه الفقرات يستكمل متّى قصة التخيير فيكتب أن رؤساء الكهنة والشيوخ بعد أن حرّضوا الجموع على المطالبة بباراباس وإهلاك يسوع، سألهم بيلاطس ماذا يفعل بيسوع فقالوا ليُصلب، وعندما سألهم عن السبب الذي من أجله يطلبون صلب يسوع إزداد صراخهم ليُصلب ولم يُجيبوا عن السؤال، وعندها رأى ان عدم صلب يسوع يمكن أن يُحدث شغباً، وهنا لا بد من وقفة مع هذا الكلام إذ ان من يقرأ هذه الكلام يظن ان اليهود هم سادة الرومان وليس العكس، كما انه يُنسينا قول لوقا ان بيلاطس من شدة عنفه كان يخلط دماء أعدائه بذبائحهم، فكيف يخاف بيلاطس ممثل قيصر والإمبراطورية الرومانية العظمى من اليهود؟!
وكيف سيوافق على إطلاق باراباس، الذي كان مشاركاً في فتنة حدث فيها قتلاً وإن لم يذكر هذا الأمر متّى إلا ان لوقا ذكره، ويصلب يسوع الذي ظهر له ولهيرودس انه لا توجد به علة توجب الموت؟!
ثم يكتب متّى ان بيلاطس استسلم لرغبة اليهود فغسل يديه بالماء لإعلان براءته من دم يسوع!
وهذا الموقف مُخالف لطبيعة بيلاطس الذي كان من العنف والشدة بحيث أنه كان يخلط دماء أعدائه بذبائحهم كما كتب لوقا في إنجيله، (لوقا 13: 1)، وأما القول بأن بيلاطس غسل يديه بالماء وان اليهود قالوا ان دمه عليهم وعلى أبنائهم فهذا راجع، كما بينتُ ذلك سابقاً، الى عدم رغبة كتبة الأناجيل والكنائس في إظهار الكراهية لبيلاطس والرومان بشكل عام ووجهوا الكراهية تجاه اليهود، وإلا فبيلاطس هو المُسبب الرئيس في عملية الصلب، لو كانت القصة صحيحة، على الرغم من كل مشاغبات اليهود وصراخهم، فهو من أصدر الأمر بالصلب، وكذلك هو من أمر بجلد يسوع والاستهزاء به، فغسل يديه لا ينفعه، وسنرى لاحقاً ان ما أقوله صحيحاً، لأن يسوع في قصة محاكمته التي كتبها يوحنا بعد ان انهى حواره مع بيلاطس بدلاً من ان يقول الويل والهلاك لك يا بيلاطس لأنك أصدرت هذا الحكم نجده يقول ويل للذي أسلمني إليك!
ومرقس كتب عن التخيير فقال:
- فأجابهم بيلاطس قائلاً أتريدون أن أُطلق لكم ملك اليهود،
لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً،
فهيّج رؤساء الكهنة الجمع لكي يطلق لهم بالحري باراباس،
فأجاب بيلاطس أيضاً فقال لهم وأيّ شرّ عمل،
فازدادوا جداً صُراخاً اصلبه،
فبيلاطس إذ كان يريد أن يعمل للجمع ما يُرضيهم أطلق لهم باراباس،
وأسلم يسوع بعد ما جَلدَه ليُصلب. (مرقس 15: 9-15)
هذه الفقرات تحمل ذات المعنى في قصة متّى من ان اليهود أسلموا يسوع حسداً له، وان بيلاطس كان يُريد ان يعمل لليهود ما يُرضيهم فأطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعدما جلده!
وهنا تظهر شخصية بيلاطس العنيفة مرة أُخرى، إذ انه كما تقول الأناجيل كان مقتنعاً بعدم وجود علة في يسوع توجب الموت، وان امرأته حذرته من التعرض ليسوع وان اليهود أسلموه حسداً وانه غسل يديه من دم يسوع ومع هذا كله فقد جلد يسوع!
ولوقا كتب عن التخيير قائلاً:
- فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب،
وقال لهم قد قدمتم إليّ هذا الانسان كمن يُفسد الشعب،
وها أنا قد فحصت قدّامكم ولم أجد في هذا الانسان علّة مما تشتكون به عليه،
ولا هيرودس أيضاً، لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه،
فأنا أُؤدبه وأُطلقه،
وكان مضطراً أن يُطلق لهم كل عيد واحداً،
فصرخوا بجُملتهم قائلين خذ هذا وأطلق لنا باراباس،
وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل،
فناداهم أيضاً بيلاطس وهو يُريد أن يُطلق يسوع،
فصرخوا قائلين اصلبه اصلبه،
فقال لهم ثالثة فأي شرّ عمل هذا، إني لم أجد فيه علّة للموت،
فانا أُؤدبه وأطلقه،
فكانوا يلجّون بأصوات عظيمة طالبين أن يُصلب، فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة،
فحكم بيلاطس ان تكون طلبتهم،
فاطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل الذي طلبوه، وأسلم يسوع لمشيئتهم. (لوقا 23: 13-25)
في هذا النص يقول لوقا ان بيلاطس كان مضطراً ان يُطلق لهم في كل عيد سجيناً، وانا أتساءل عن معنى الاضطرار بالنسبة لوالي يمثل أعظم دولة في العالم في ذلك الوقت!
ولكن حتى لو كان مضطراً، لو انه أطلق لهم يسوع، وهو يعلم انه لا يستحق الموت، فماذا ستكون ردة فعل اليهود؟
قد يقول قائل ان اليهود سيشتكون عليه باعتبار ان يسوع يفسد الشعب ويدعو الى عدم اعطاء الجزية لقيصر وانه يريد احداث فتنة كما كتب يوحنا في إنجيله، ولكن بيلاطس يستطيع ان يُدافع عن قراره هذا بأن يسوع يدفع الجزية ويأمر اتباعه بطاعة أوامر قيصر والخضوع له، كما يستطيع القول ان اليهود هم من يسعون الى الفتنة وافساد الشعب لأنهم يطلبون اطلاق رجل كان مشاركاً في فتنة!
وأخيراً كتب يوحنا عن عملية التخيير فقال:
- ولما قال هذا خرج أيضاً إلى اليهود وقال لهم أنا لست أجد فيه علة واحدة، ولكم عادة أن أُطلق لكم واحداً في الفصح،
أفتريدون أن أُطلق لكم ملك اليهود،
فصرخوا أيضاً جميعهم قائلين ليس هذا بل باراباس، وكان باراباس لصاً. (يوحنا 18: 38-40)
في هذه الفقرات يقول يوحنا ان من عادة بيلاطس ان يطلق لليهود سجيناً واحداً في الفصح، اي انه ليس مضطراً كما كتب الباقون بل هي عادة، والذي عنده عادة يفعلها كما يشاء ولا دخل للآخرين بها لانها ليست قانوناً أو اضطراراً، فلو أطلق لهم يسوع لما كان لليهود حجة في رفض إطلاقه لان بيلاطس يكون قد قام بعادته!
وأما قول يوحنا ان باراباس كان لصاً فهذا كتبه كي يتوافق مع آخر قصته التي أشار فيها الى ان اليهود هددوا بيلاطس بالشكوى عليه عند قيصر بأنه لا يحبه لأنه أطلق يسوع الذي يقول عن نفسه انه ملكاً وانه يقاوم سلطة قيصر، فلو كتب يوحنا ان باراباس كان مسجوناً في فتنة لانتفت حجة اليهود، لهذا قال ان باراباس كان لصاً، مخالفاً بهذا القول مرقس ولوقا اللذان كتبا إنجيليهما أيضاً بسوق من الروح المقدس كما تقول الكنائس!
إلى هنا انتهت عملية التخيير وبدأت عملية تسليم يسوع لليهود كما في النصوص التالية:
- فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً بل بالحري يُحدث شغب،
أخذ ماء وغسل يديه قدّام الجمع قائلاً إني بريء من دم هذا البار،
أبصروا أنتم ، فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا،
حينئذ أطلق لهم باراباس واما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب. (متّى 27: 24-26)
هذه الفقرات كنت قد تعرضت لها بالنقاش سابقاً فأغنى عن الاعادة، ولكن كما نقرأ فإن بيلاطس غسل يديه من دم يسوع واليهود قالوا ان دمه علينا وعلى أبنائنا ثم قام بيلاطس بجلد يسوع وأسلمه ليُصلب.
- فبيلاطس إذ كان يُريد ان يعمل للجمع ما يُرضيهم أطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعد ما جلده ليُصلب. (مرقس 15: 15)
في هذا النص يكتب مرقس أن بيلاطس جلد يسوع وبعد ذلك أسلمه ليُصلب.
- فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم، فأطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل الذي طلبوه، وأسلم يسوع لمشيئتهم. (لوقا 23: 24-25)
في هذا النص يذكر لوقا ان بيلاطس أطلق لهم باراباس الذي طُرح في السجن لأجل فتنة وقتل، وأسلم يسوع لمشيئتهم، وكما نقرأ فإن متّى ومرقس ولوقا اتفقوا تقريباً على ذكر تفاصيل عملية تسليم يسوع لليهود فماذا عن يوحنا؟
لنقرأ ما كتب يوحنا عن عملية تسليم يسوع لليهود:
فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده وضفر العسكر إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان، وكانوا يقولون السلام يا ملك اليهود وكانوا يلطمونه.
كما نقرأ فإن بيلاطس بعد المناقشة الاولى مع اليهود قام بجلد يسوع ووضع الجند إكليلاً من الشوك على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان قبل تسليمه، بخلاف متّى الذي قال إن إلباس يسوع رداء قرمزياً ووضع إكليل الشوك على رأسه كان بعد تسليمه لليهود، كما أنه يخالف قول مرقس الذي ذكر قصة تشبه قصة متّى، وأما لوقا فلم يذكر شيئاً عن إكليل الشوك وإن ذكر أن هيرودس، وليس بيلاطس، هو من قام بإلباس يسوع لباساً لامعاً للاستهزاء به!
- فخرج بيلاطس أيضاً خارجاً وقال لهم ها أنا أُخرجه إليكم لتعلموا أني لستُ أجد فيه علة واحدة،
فخرج يسوع خارجاً وهو حامل إكليل الشوك وثوب الأُرجوان فقال لهم بيلاطس هوذا الإنسان.
هذه الفقرات لم يتعرض لها أحد من كتبة الأناجيل الآخرين، وإن كنت استغرب تصرف بيلاطس وهو يُخرج يسوع بعد ان جلده حاملاً إكليل الشوك وثوب الأرجوان ثم يقول انه لا يجد فيه علة واحدة، فماذا كان سيفعل لو وجد فيه علة؟!
- فلما رآه رؤساء الكهنة والخدّام صرخوا قائلين اصلبه اصلبه،
قال لهم بيلاطس خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة،
أجابه اليهود لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الإله.
الفقرة الأخيرة هي التي أشرت إليها عندما قال اليهود لبيلاطس أن ناموسهم لا يُجيز قتل أحد وعقّب يوحنا بالقول ليتمّ قول يسوع الذي قاله مُشيراً الى أيّة ميتة كان مُزمعاً أن يموت.
فكما قلت ان الجميع يعلم ان شريعة اليهود تقضي بحكم الموت في عدد كبير من القضايا فكيف قالوا هناك ان شريعتهم لا تجيز لهم قتل أحد، وهنا قالوا ان شريعتهم تجيز قتل يسوع لانه جعل نفسه ابن الإله!
ان أول ما يتبادر الى عقل القارئ ان هذا التناقض في أقوال اليهود انما مرجعه الى ان رؤساء الكهنة كانوا لا يتحاشون الكذب في سبيل قتل يسوع!
وأما أنا فأقول ان ذكر هذين القولين من يوحنا إنما جاء بقصد مُعيّن للإيحاء بأن ما قاله اليهود في كل مرة يحمل قصداً وسبباً في إثبات القصة، فقوله الأول كما قلت سابقاً وكما أشار هو إليه بأنه كان يشير إلى صلب يسوع وهو حيّ، لان شريعة اليهود تقول ان الرجل الذي يستحق عقوبة الموت يُقتل أولاً ثم يُعلق، ويوحنا في قصته كان يُريد ان يُعلق يسوع على الصليب حياً ومن ثم يموت، فبحسب أحكام شريعة اليهود لا يستطيع كتابة قصته بهذه الطريقة، لهذا قال يوحنا ان اليهود قالوا لبيلاطس ان شريعتهم لا تجيز قتل أحد، حتى يتم إصدار الحكم بحسب شريعة الرومان، التي تعتبر الصلب نفسه هو العقوبة، إذ يُعلقون المستحق للقتل على الخشبة حتى يموت!
واما قول يوحنا ان اليهود قالوا في المرة الثانية ان يسوع مستحق للموت بحسب ناموسهم، لأنه كان يُريد سبباً لقتل يسوع، لأنه بحسب شريعة اليهود فإن كل من يجدف، أي يقول او يعمل كفراً، فان عقوبته الموت، ومن يقول عن نفسه ابن الإله فانه يقوم بأعظم انواع الكفر والتجديف الذي يستحق بموجبه الموت او القتل، وأما شريعة الرومان الوثنية القائمة أصلاً على تعدد الآلهة والخرافات فان هذا القول لا يُشكل جريمة تستحق القتل، لهذا كتب يوحنا هذا القول على لسان اليهود كي يجد سبباً للحكم على يسوع بالموت بحسب شريعة اليهود، وتنفيذ الحكم أي صلبه وهو حيّ بحسب شريعة الرومان!
ولكن فات يوحنا ان اليهود في ذلك الوقت لم يكونوا هم الحكام بل كانوا عبيداً عند الرومان، وان من اصدر الحكم هو بيلاطس وليس الكهنة، فعندما لم يجد يوحنا سبباً لموت يسوع بحسب قوانين روما وهو ما صرّح به بيلاطس في الاناجيل الاربعة اضطر في نهاية الأمر الى القول ان سبب موت يسوع كان لأنه جعل نفسه ابن الإله!
- فلما سمع بيلاطس هذا القول ازداد خوفاً،
فدخل أيضاً الى دار الولاية وقال ليسوع من أين أنت،
وأما يسوع فلم يُعطه جواباً،
فقال له بيلاطس أما تكلمني، ألستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أُطلقك،
أجاب يسوع لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق،
لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم.
في هذه الفقرات ينقلنا يوحنا الى جانب آخر من العلاقة بين يسوع وبيلاطس أثناء المحاكمة فبعدما سمع بيلاطس قول اليهود عن يسوع انه جعل نفسه ابن الإله، ازداد بيلاطس خوفاً مما يشير الى ان بيلاطس كان خائفاً قبل هذا القول وازداد بعده خوفاً! وهذه الصفة لم تظهر عليه وهو يأمر بجلد يسوع، إلا اننا سنتجاوز هذه الصفة ونوافق ليوحنا عليها لنرى أثر هذه الصفة على بيلاطس فهو عندما أدخل يسوع لدار الولاية مرة ثانية سأله من أين أنت؟
فقال يوحنا ان يسوع لم يعط جواباً، وفي هذا القول نجد ان يسوع ما زال مصراً على عدم الإعلان عن صفته التي تقولها عنه قوانين إيمان الكنائس.
لماذا لم يُعلن يسوع صفته لبيلاطس وهو يعلم انه سيُصلب بعد قليل؟
ولكن بيلاطس كما يقول يوحنا لم ييأس من إقناع يسوع بالإجابة على أسئلته كي لا يصلبه فقال له ألستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أُطلقك.
وهنا يأتي جواب يسوع والذي يهدم قانون إيمان الكنيسة الذي يقول ان يسوع أحد الآلهة الثلاث الذين هم واحد، فيقول لبيلاطس انه ليس له عليه سلطان لو لم يكن أُعطي لك من فوق، وهذا يدل على ان يسوع لا يعتبر نفسه أحد الآلهة الثلاث الذين هم واحد، هذا لو كانت موجودة وهي ليست بموجودة، وإلا لقال لبيلاطس إن هذا السلطان أُعطي لك مني، ولكن كيف سيكتب يوحنا ان يسوع قال لبيلاطس ان سلطانه منه وبيلاطس بعد قليل سيحكم على يسوع بالموت والصلب، وقبلها كان قد جلده، لهذا كتب يوحنا ان سلطان بيلاطس من فوق مع علمه ان هذا القول ينقض قانون الآلهة الثلاث الذين هم واحد، هذا اذا كان قد سمع عنه!
ثم نرى يسوع يتكلم بنوع من القوة والصلابة فيقول ان الذي أسلمني إليك له خطية أعظم!
وهذا القول يمثل مفاجأة للقرّاء، إذ أنهم كانوا يتوقعون من يسوع ان يقول هذا القول لبيلاطس، ولكن يسوع يوجه كلامه الشديد للخائن يهوذا، وهذا ما أشرت إليه سابقاً ان كتبة الاناجيل كانوا حريصين على عدم اثارة العداوة والكراهية تجاه الرومان والقيصر وولاته.
- من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يُطلقه ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين إن أطلقت هذا فلست مُحباً لقيصر، كل من يجعل نفسه ملكاً يُقاوم قيصر،
فلما سمع بيلاطس هذا القول أخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جبّاثا،
وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة،
فقال لليهود هوذا ملككم، فصرخوا خذه خذه اصلبه،
قال لهم بيلاطس أأصلب ملككم،
أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك الا قيصر،
فحينئذ أسلمه إليهم ليُصلب. (يوحنا 19: 1-16)
هذه الفقرات التي تتحدث عن قول اليهود ان يسوع يقول عن نفسه انه ملك وانهم سيشتكون على بيلاطس إن هو أطلق يسوع كنت قد ناقشت ما فيها من تناقضات سابقاُ فأغنى عن إعادته.
وما أود الإشارة إليه هو ان يوحنا يقول ان صلب يسوع بدأ بعد الساعة السادسة وهو ما يتناقض مع الاناجيل الاخرى التي قالت ان صلب يسوع بدأ في الساعة الثالثة!
ثم نقرأ في الأناجيل أن بيلاطس كتب على الصليب جملة هذا نصها:
- وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود. (متّى 27: 37)
- وكان عنوان علته مكتوباً ملك اليهود. (مرقس 15: 26)
- وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية هذا هو ملك اليهود. (لوقا 23: 38)
- وكتب بيلاطس عنواناً ووضعه على الصليب وكان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود، فقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود لأن المكان الذي صُلب فيه يسوع كان قريباً من المدينة،
وكان مكتوباً بالعبرانية واليونانية واللاتينية،
فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس لا تكتب ملك اليهود بل إن ذاك قال أنا ملك اليهود،
أجاب بيلاطس ما كتبتُ قد كتبتُ. (يوحنا 19: 19-22)
كما نقرأ في هذه النصوص فإن الاناجيل اختلفت في ذكر الكلمات التي كتبت على الصليب، فمتّى كتب هذا يسوع ملك اليهود. ومرقس كتب ملك اليهود، ولوقا كتب ملك اليهود باللغات اليونانية والرومانية والعبرانية، واما يوحنا فكتب انه كان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود وانها كتبت بالعبرانية واليونانية واللاتينية.
والاهم من هذه الاختلافات ونحن نتحدث عن شخصية بيلاطس هو هذه الجرأة من اليهود على ممثل قيصر الذي يخلط دماء أعدائه بذبائحهم، ولكن ما العمل ونحن نرى ان كتبة الاناجيل يريدون ان يظهروا بيلاطس وكأنه مغلوب على أمره في محاكمة يسوع وإصداره للحكم بصلب يسوع، حتى قال متّى ان بيلاطس غسل يديه بالماء للتبرؤ من دم يسوع، ويسوع عندما أراد ان يُظهر عِظَم جريمة صلبه بدلاً من ان يوجه لعنته  لبيلاطس الذي أصدر الحكم نراه يُوجه هذه اللعنة على يهوذا الخائن كما كتب يوحنا!
فكتبة الاناجيل كان يهمهم بالدرجة الاولى ان تتوجه كل الكراهية والحقد على اليهود واظهار بيلاطس انه بريء، وكان حرياً بهم ان يكتبوا قصة لصلب يسوع من قبل اليهود مباشرة دون تدخل بيلاطس بدلاً من وضع قصة مليئة بالتناقضات والأخطاء التي أقل ما فيها أنها تنسف قانون الإيمان بالثالوث كما قرأنا سابقاً!
وبعد الصلب يأتي رجل اسمه يوسف الذي من الرّامة يطلب من بيلاطس السماح له بدفن يسوع كما في النصوص التالية:
- ولما كان المساء جاء رجل غني من الرّامة اسمه يوسف وكان هو أيضاً تلميذاً ليسوع،
فهذا تقدم الى بيلاطس وطلب جسد يسوع، فأمر بيلاطس حينئذ أن يُعطى الجسد،
فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي،
ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر ومضى،
وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الاخرى جالستين تجاه القبر. (متّى 27: 57-61)
- ولما كان المساء إذ كان الاستعداد أي ما قبل السبت،
جاء يوسف الذي من الرامة مشير شريف وكان هو أيضاً منتظراً مملكة الإله فتجاسر ودخل الى بيلاطس وطلب جسد يسوع،
فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعاً،
فدعا قائد المئة وسأله هل له زمان قد مات،
ولما عرف من قائد المئة وَهَبَ الجسد ليوسف،
فاشترى كتاناً فانزله وكفنه ووضعه في قبر كان منحوتاً في صخرة ودحرج حجراً على باب القبر،
وكانت مريم المجدلية ومريم أُم يوسي تنظران أين وُضع. (مرقس 15: 42-47)
- وإذا رجل اسمه يوسف وكان مشيراً ورجلاً صالحاً بارّاً،
هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم وهو من الرامة مدينة لليهود، وكان هو أيضاً ينتظر مملكة الإله،
هذا تقدم الى بيلاطس وطلب جسد يسوع،
وأنزله ولفه بكتان ووضعه في قبر منحوت حيث لم يكن أحد وضع قط،
وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح،
وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده،
فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً، وفي السبت استرحن حسب الوصية. (لوقا 23: 50-56)
- ثم إن يوسف الذي من الرّامة وهو تلميذ يسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع فأذن بيلاطس فجاء وأخذ جسد يسوع،
وجاء أيضاً نيقوديموس الذي أتى أولاً الى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّاً، فأخذا جسد يسوع ولفّاه بأكفان مع الاطياب كما لليهود عادة أن يُكفنوا،
وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان وفي البستان قبر جديد لم يُوضع فيه أحد قط،
فهناك وضعا يسوع لسبب استعداد اليهود، لأن القبر كان قريباً. (يوحنا 19: 38-42)
تتفق الاناجيل الاربعة على الدور الذي لعبه بيلاطس في عملية دفن يسوع، كما تتفق على دور يوسف الذي من الرامة في هذه العملية مع بعض الاختلافات، وفي هذا المقام أودّ الاشارة إليها حتى يتضح لنا طريقة الأناجيل في عرض الشخصيات والقصص والعقائد المراد توصيلها لنا، ولمعرفة حقيقة قول الكنائس ان الروح المقدس كان يسوق كتبة الأناجيل.
تتفق الأناجيل الأربعة كما نقرأ على ان يوسف الذي من الرامة قام بتكفين يسوع بكتان نقيّ، وإن اختلفت صيغ الإشارة لذلك، فمرقس ولوقا كتبا ان يوسف لفه بكتان، وهذا للإيحاء بأن يسوع لم يتم تكفينه حسب شريعة اليهود مما يستدعي تكفينه مرة أُخرى، وهو ما كتباه عن قيام مريم المجدلية بمحاولة تكفين يسوع كي يكون المبرر للكشف عن قيام يسوع من الأموات! مع انهما أوضحا ان يوسف الذي من الرامة قام بتكفين يسوع، وزاد يوحنا الأمر ايضاحاً بقوله ان نيقوديموس الذي أتى أولاً الى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مائة منّاً، فأخذا جسد يسوع ولفّاه بأكفان مع الاطياب كما لليهود عادة ان يكفنوا، فيوحنا يقول ان يسوع تمّ تكفينه كما هي عادة اليهود في التكفين، مما تنتفي به حجة مرقس ولوقا القائلة ان سبب ذهاب مريم المجدلية للقبر هو تكفين يسوع!
كما نلاحظ ان متّى ومرقس حددا وقت أخذ يوسف لجسد يسوع مساءً، في حين ان لوقا حاول ان يُظهر عكس ذلك بقوله وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح، كي يُبقي يسوع وتلاميذه ملتزمين بشريعة اليهود في السبت حتى بعد مماته، وهو ما لم تلتزم به الكنائس فيما بعد حتى انها استحدثت يوم الشمس بدلاً منه، وهو يوم الأحد باللغة العربية، وأما يوحنا فلم يُحدد الوقت، وهذه المحاولات لا تستطيع إخفاء أن مدة بقاء يسوع في القبر وقيامته تتناقض مع ما تنبأ به من القول انه كما كان يونان في بطن الارض ثلاثة أيام وثلاث ليال فان ابن الإنسان، وهنا يقصد نفسه، سيبقى في بطن الارض ثلاثة ايام وثلاث ليال، لانه كيفما حُسبت هذه المدة التي تذكرها الاناجيل عن بقاء يسوع في القبر فانها لن تحقق كلامه!
واما قول لوقا وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح، وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده، فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً، وفي السبت استرحن حسب الوصية، فهو وإن كان يُريد ان يجعل سبباً لعودة النسوة الى القبر لإظهار ان يسوع قام من الأموات فهو يتناقض مع ما كتبه هو شخصياً وما كتبه مرقس من ان يوسف كفّن يسوع كما انه يتناقض بكل وضوح مع ما كتبه يوحنا لانه اذا كان أحد سيفهم من كلام لوقا ومرقس ان التكفين ليس كاملاً لانه بدون حنوط وأطياب، فإن يوحنا أوضح الامر بكل وضوح ان التكفين كان بحسب عادة اليهود من التكفين باطياب وكتان، وللتدليل على صدق روايته قال إن التكفين تمّ بحضور نيقوديموس، وهو ما ينفي حجة ذهاب مريم المجدلية للكشف عن قيامة يسوع من الأموات.
وانا أتساءل عن السبب الذي دفع كتبة الأناجيل لكتابة قصص تتعارض فيما بينها لإظهار ان يسوع قام من الأموات، ألم يكن باستطاعتهم ان يكتبوا ان النسوة ذهبن لزيارة القبر فتبين لهن انه فارغ ثم يُكملوا كتابة الاناجيل بعيداً عن هذه التناقضات، مع العلم ان التلاميذ كما ذكرت الاناجيل لم يصدقوا قولهن؟!
فهل عدم تصديق التلاميذ للنساء من انهن لم يجدن يسوع في القبر جاء من الحجة التي ذهبن بها الى القبر، أي ان التلاميذ لم يصدقوا قولهن انهن ذهبن الى القبر لتكفين يسوع لان يوسف الذي من الرامة كان قد كفّن يسوع وبالتالي اعتبروهن كاذبات فيما قلنه عن قيامة يسوع من الأموات لانه لا يوجد سبب لذهابهن، أم ان عدم تصديق التلاميذ لهن ناتج عن عدم إيمان التلاميذ كما بينت ذلك سابقاً؟!
وآخر ذكر لبيلاطس في الاناجيل جاء في النص التالي:
- وفي الغد بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس، قائلين يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المُضلّ قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فَمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة أشرّ من الأُولى،
فقال لهم بيلاطس عندكم حراس، اذهبوا واضبطوه كما تعلمون،
فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر. (متّى 27: 62-66)
في هذا النص يكتب متّى ان رؤساء الكهنة اجتمعوا ببيلاطس وطلبوا منه ان يُرسل جنوداً ليحرسوا القبر كي لا يأتي تلاميذ يسوع ويأخذوا الجسد ويقولوا للناس ان يسوع قام من الأموات فتكون فتنة أشرّ من الاولى!
وأول ما يخطر على قلب الانسان وهو يقرأ هذه الفقرات هو التعجب! لأن التلاميذ الذين أشار اليهم رؤساء الكهنة هم انفسهم لم يصدقوا ان يسوع قام من الأموات، لا بل ان بعضهم لم يصدق حتى وضع أصابعه ويده في جروح يسوع كما هو مكتوب في الاناجيل، فكيف سيفكرون في أخذ الجسد للقول انه قام من الأموات!
من هذا الإستعراض لشخصية بيلاطس وعلاقته بيسوع هل يستطيع أحد أن يقول أن صفات يسوع سواء كمسيح أو كإله كانت ظاهرة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق